مظالم التاريخ لا تعد ولا تحصى، ولعلّ من أبرزها تسليطَه أضواء كثيفة على من لا يستحقون، فيصبحون حديث الأمس واليوم والغد، بينما يُلقي بظلالٍ كثيفة على نبلاء يحصرهم في ظلال زاوية النسيان، من بين الصنف الثاني هو الكامل محمد الأيوبي صاحب ميافيارقين، وهي قلعة كانت تقع في کوردستان الشمالية ( جنوبي تركيا) الحالية، قادها حظها العاثر إلى أن تقع في طريق فيضان التتار إلى شمال الشام، وهذا ما صنع مصيرها، ومصير حاكمها، وحجز لهما موقعهما على مسرح التاريخ .
احفاد صلاح الدين.. ليس اليوم كالبارحة
قبل أكثر من 70 عامًا من أحداث الاجتياح التتري للعراق والشام، كان العالم الإسلامي على موعد مع لحظة تاريخية بارزة عندما نجح أقوى الأمراء المسلمين آنذاك، صلاح الدين الأيوبي والذي كان يخضع لسلطانه الشام ومصر واليمن والحجاز وبرقة -غرب ليبيا- في إلحاق هزيمة تاريخية بالصليبيين في موقعة حطين الشهيرة 583هـ (1187)م، ونجح على إثرها في استرداد بيت المقدس، بعد أكثر من 90 عامًا على الاحتلال الصليبي .
بعد وفاة صلاح الدين الأيوبي 589هـ (1193)م، مال عامة الناس إلى الركون إلى طاعة الأمراء الأيوبيين من أبناء صلاح الدين وإخوته وأولاد عمومته… إلخ، أملًا في أن يواصل هؤلاء ما بدأه سلفهم في كفاحه للحفاظ على وحدة الشام ومصر، وفي مواجهة بقايا الاحتلال الصليبي المتمركزة في أغلب السواحل الشامية.
إنشغل الأمراء الأيوبيون بالصراع على السلطة، والذي كان أوله الصراع بين أبناء صلاح الدين على ميراث مملكته، والذي استمر سبع سنوات تمزقت فيها البلاد. ورغم نجاح عمهما العادل في انتزاع السلطنة لنفسه، وضبط الأمور، فإنه لم ينجح في فعل الكثير ضد الصليبيين. وجاء الكامل بن العادل من بعده، فحاول الحفاظ على وحدة متذبذبة بين مصر والشام، لكن انشغل بالتصدي للحملات الصليبية على مصر، ثم عقد صفقة غريبة مع ملك ألمانيا سلَّمَهُ فيها القدس مقابل السلام. وبعد وفاة الكامل، دارت حرب أهلية بين ابنيْه نجم الدين وسيف الدين، انتصر فيها نجم الدين أيوب، لكنه واجه تحالفًا من بعض أعمامه والصليبيين، ثم نجح في الانتصار عليهم وتحرير القدس مجددًاعام 1244م (642)هـ.
أحدث نجم الدين انقلابًا في توازنات القوى عندما استكثر من العبيد المماليك ليتقوى بهم في حروبه، فزاد عددهم، وقويت شوكتهم، خاصة عندما أسهموا بدور كبير في الانتصار لاحقًا على حملة لويس السابع على مصر 648هـ (1250)م، بينما هو على فراش الموت. سينقلب المماليك على توران شاه بن نجم الدين عندما أراد الحطّ من أقدارهم، وسيقتلونه، ويسيطرون على الحكم، وتنتهي حقبة الدولة الأيوبية، والتي ستتمزق بين المماليك في القاهرة، وبعض الأمراء الأيوبيين في دويلاتٍ هنا وهناك في الشام والعراق وجنوبي تركيا، ومن ضمنها كانت الدويلة التي مركزها مدينة ميَّافارقين، وحاكمها الكامل الأيوبي
عندما ظنَّ المسلمون أن القيامة على الأبواب
كان عام 656هـ (1258م) من أقسى الأعوام في تاريخ الأمة الإسلامية، فقد شهد الاجتياح الشهير لبغداد، عاصمة الخلافة الإسلامية لأكثر من خمسة قرون، والتي ارتكب التتار بحقها مجزرة مروعة دامت أسابيع، قتل فيها مئات الآلاف من سكانها، واستبيحت المدينة، وثرواتها، ومدارسها، ومساجدها، ومكتباتها لأسابيع.
نزلت أخبار ما جرى في بغداد كالصواعق على المسلمين جميعًا، وأيقنوا أن السيل التتري سيبتلعهم لا ريب، وهو بالفعل قد عمَّ شرق وقلب العالم الإسلامي بأكملهما، ولم يبقَ منهما خارج سلطانه سوى مصر واليمن والحجاز. سارع البعض إلى مصانعة التتار والتحالف معهم مثل أمير الموصل بدر الدين لؤلؤ، والذي أرسل إمدادات إلى التتار أثناء حصارهم لبغداد، والأشرف صاحب حمص بالشام، وغيرهم.
في المقابل انهار كثيرون، وأُسقِط في أيديهِم، فلم يستطيعوا لا الاستسلام، ولا المواجهة، ولا الفرار، ومن هؤلاء الناصر يوسف -أحد أحفاد صلاح الدين الأيوبي الشهير، ولم يكن يشبهه سوى في الاسم واللقب- والذي كان حاكم دمشق وحلب حاضرتيْ الشام، وقد فرَّ إلى الصحراء عندما بدأ التتار غزو الشام، حتى سقط أسيرًا لديهم، وقتلوه فيما بعد انتقامًا من هزيمتهم اللاحقة في عين جالوت.
أما في مصر، فقد بدأ الوضع السياسي فيها يستقر ولو مؤقتًا مع استيلاء نائب السلطنة المملوك سيف الدين قطز على السلطة، بعد عزل ابن أستاذه الصغير نور الدين علي بن عز الدين أيبك، منهيًا بذلك حقبة استمرت لسنواتٍ من الصراع على السلطة بين القادة المماليك، انتهت بمصرع كبارهم مثل السلطانة شجر الدر، و أقطاي، وأيبك.
وفد إلى مصر آلاف اللاجئين من الأمراء وعامة الناس على حدٍّ سواء، والذين نقلوا لأهل مصر ومقدّميها أخبار الفواجع المهولة التي ارتكبها التتار بحق كل البقاع التي وصل إليها زحفهم، وكانت الفكرة المسيطرة على الغالبية العظمى من الناس، أن التتار لا يقهرون. في المقابل، نقل الناس كذلك أخبار الصمود الأسطوري لمدينة ميافارقين في وجه جيش تتري كبير يقوده أحد أبناء خانهم الأعظم هولاكو، والذي استمر عامًا ونصف، رغم عزلة المدينة، وانقطاع المدد، والفارق الضخم بين إمكانات المدافعين، وقدرات المهاجمين .